الخميس، 21 يناير 2021

... الصّوت المألوف ...


 

كان المكان مظلماً للغاية، لا هواء يلعب فيه ولا ضوء، ظننت أني سأكون قادراً على سحب إحدى يديّ، والمحاولة لإيجاد مصدر نورٍ يحي قلبي الذي لم أعد أشعر به، غير أن ذراعيّ كانتا مربوطتين باستقامة إلى أسفل جسدي بقوة ، و ستار كبير من النايلون يلفّني بحنق، المحاولة للتحرر أشبه بإعادة ميتٍ إلى الحياة!
حاولت النهوض وسحب جسدي بكامله من أسفل إلى أعلى بانتفاضات متسارعة ، سرعان ما ارتطم رأسي بحاجز معدني قاس الصدر، أدركت فيما بعد أنه صندوق معدني شديد البنية، صلب الملمس وأنا فيه إلى ماشاء الله.
مرّ الليل، وعاد مرة ثانية وثالثة وعاشرة، وأنا لا أعلم من أنا ، ولا كيف أتيتُ إلى هنا، صوتي لا أسمعه، رغم محاولتي الصراخ، لكني بلا صوت وبلا ذاكرة حتى صباح هذا اليوم، بعد أن صحا الديك والعصافير ، كان هنالك صوت جديد يقترب بتقطّع، يبتعد تارة بضعف ويقترب بطبقة أقوى مجدداً.
أحسست برعشة تنفض شيئاً ما داخلي، ذاكرة قلبي تتعرف على أحدهم، وأنا أحاول بصعوبة معرفة صاحب هذا الصوت المألوف، الذي سرعان ما اختفى، لكنّ قلبي رغم سكونه كان يتحرك ببطء.
عندما عاد الليل شعرت بشيء يدغدغ قدمي، ثم كثرت الدغدغات حول رأسي، وجسدي بأكمله، حين أمعنت النظر علمت أنه سرب من دود الأرض ، يريد الوصول إلى جسدي ، لكن عليه أولاً إزالة الستار البلاستيكي الملفوف حولي.
الغريب أني لم أكن أتألم، وأنا أشاهد جسدي وليمة لديدان الأرض الصغيرة، و كان الأغرب أن أجد نفسي مفصولاً عنه تماماً ، أنا أنا وهو هو!
كيف تجاوزت هذه الديدان الصندوق المعدني، وانبثقت فجأة حولي من كل الاتجاهات!.
بعد صمتٍ عمره أسابيع، عاد الصوت المألوف ليقترب أكثر ، وكنت قد أوقفت كل محاولاتي للتحرر من ضغط ما يكبلني، فلم يعد لي جسد، مابقي من أجزائي ضئيل جداً، وشعرت للمرة الأولى بخفة ، ووجدت نفسي أتسلل خارج المكان، وأخترق صلابة الصندوق، و حنقة النايلون.
وجدت نفسي أطوف بغتة فوق مكان مزدحم بالأحجار المنسوخة بأسماء وتواريخ عديدة، هبطتُ للأسفل قليلاً، قرأتُ اسمي على إحداها وتاريخ وفاتي، إذن أنا ميت!
في خضم أفكاري الغريبة اقترب الصوت المألوف ، بات قريباً جداً وعالياً وكأنه يهمس في أذني، لكنّي لم أرَ أحداً يمر المكان، أصغيت بتركيز أكثر ، وجدت شجيرة حبق صغيرة، مغروسة في تربة قبري ، تهب نسمات الريح اللطيفة، فتحرك أغصانها الغضّة، ويصدر عنها الصوت الذي لا يفارقني منذ مماتي.
من الخلف كان حارس المقبرة منهمكاً في دفن ميت آخر ، و لم يكن هناك جموع أو حشود ، سوى رجل واحد يرتدي قناعاً، ويغطي جسمه وكفيه بشتى أنواع الأقمشة ، اكتفيا برمي صندوق معدني داخل الحفرة بسرعة ، كفتيل نارٍ مشتعل الأطراف، يخافون هيجانه واحتراقهم.
راح حارس المقبرة يطرق كفيه ببعضهما، وهو يتمتم بحزن:
" يارب لا تضيق عليّ قبري بصندوق معدني كحال من ماتوا بالوباء اللعين.."
"وباء!".. نعم أعرف هذه الكلمة جيداً، التصقت بي قبل مماتي، وبدون سابق إنذار ، بعد عودتي من رحلتي التجارية بدأت الارتجاف لأيام، كان ظهري يؤلمني كأنه سكين تقسمني إلى نصفين ، وعرقي يتصبب بين الحرارة والبرودة دون فهم لما يعتريه، أذكر أني أخبرت أصدقائي بما أشعر، فاختفت أصواتهم، و لم يعد أحدهم يسأل عني ، قصري الفخم ماعاد يسعني، وأنا أترنح بين أجزائه بسعالي المحموم الجاف ، كنت أخاله يخرج من رأسي أو من عيني، وكنت تلك اللحظة أخاف الموت وأهابه حقاً، لذا آثرت الخروج من المنزل ، لكن إلى أين، وكيف؟
هل هناك طريق لأخرج ، وأنا كغيري من الناس مرهون لهم البقاء ، هل سيشفع لي قصري أو حزم المال التي أخفيها في خزانة الحائط في الطابق العلوي؟".

بعد برهة من محاولة تنشيط ذاكرتي الضبابيّة، عاد الصوت المألوف ليقترب ، لكن هذه المرّة كان باستطاعتي رؤيته وأنا أجثو قرب قبري، كان رجلاً يحمل في يديه بعض الماء ، يرش بها الحبق المغروس في تربتي الرطبة، شيء ما كان يعصرني ويخنقني كأني لم أمت ، هذا الرجل أعرفه ولا أعرفه، أراه الآن ولا يراني ، لعله يشعر بي فقط ، كلما استدار أدركت أنه يبحث عن شي يشعره ولا يستطيع رؤيته.
عندما بدأ بتلاوة الفاتحة ،كنت أختنق أكثر وأعتصر، كأنه يمسك عصا ويلفّها حول قلبي.
عدت بذاكرتي إلى الحياة الأولى ، محاولاً معرفة هدا الرجل القريب البعيد، ترى ما حدث لي في تلك الأيام! ، لا أذكر سوى اختناقي وحشرجتي فوق السرير، حاولت الاتصال بأشخاص لم يفارقوني أبداً، لكن لم يكن من مجيب، أنا موبوء، لم أعد الآن صاحب الشركة الثري الذي يدر الأموال، ولا ذلك الرجل الذي ترغب النساء في صداقته، كنت أضعف وأفقر إنسان عرفه الوجود، لكن كيف مت؟ ، ذاكرتي لا تساعدني لمعرفة طريقة موتي، آخر ما قمت به كان محاولتي الاتصال بأحدهم ، ربما حاولت عشر مرات لأسمع صوتاً كان علي سماعه، رغم سعالي وصعوبة الحديث بالنسبة إلي، ذبذباته تسري في أذني التي لم تعد موجودة الآن ، تدق داخلي،و تمتد بين رائحة شتلة الحبق وصوت تلاوة الفاتحة بذات القشعريرة التي بزغت فوق صوتي حين قال"..ألو ..من معي؟"
-أنا حازم
اختفى صوته برهة "....ماذا تريد؟"
-سامحني يا أخي ، لقد ظلمتك ، خذ كل ما أملك ، فقط اغفر بشاعتي..
لم أسمع بعدها سوى صوت نحيب صامت، أغلقت الهاتف وكان صدري ملتصقاً بجدار من الطين، لا أشم أية رائحة ولا أشعر بقلبي، انتفضتُ فوق الأرض ثم توقفتُ عن الحراك ، وما زال صوت النحيب الصامت يتردد في دماغي الحي.
فجأة حلّ الضباب فوق عيني ، وبدأت أعود من ذلك الزمن العجيب، ولم أعد أسمع سوى صوت المنبه قرب رأسي، وصوت زوجتي تصرخ،" انهض ..حان موعد جلسة المحكمة بينك وبين أخيك"



صبا حبوش 2020