السبت، 15 سبتمبر 2018

ظلّ من حبر..






التقينا والضباب يعتصر الفضاء ،التقينا وفي قلب كلينا رغبة في الخروج عن صمت الذات!
لكنّ عيني لم تقع عليه من قبل، وكذلك عينيه...
ورغم أضواء الشارع المنتحبة بين قطرات المطر,استطعتُ أن أسرق من بعيد بريقَ مقليته ....
وكأني أعرفه منذ سنين،نسيتُ كلّ من حولي ولم يبقَ في المكان سواه!
معطفٌ صوفي طويل وقبعةٌ كلاسيكية أوقفتني دون حراك،أبعدتُ نظراتي عن محيطه وتجاهلتُُْ مالا يمكن تجاهله،وكأنّه سلسلةٌ من المطر راحتْ تفيض أمامي بشيءٍ من الرقود.
هو من كان على صفحاتي فيما مضى حروفاً رسمتْها ذراتُ الحبر الأسود،والآن تحييهِ أمامي ذراتُ تشرينَ.
كيف للحروف أن تصبح واقعاً يمرُّ من يميني لينتشلَ لهفة تحول الحبر إلى جسدٍ تسري فيه الدماء,بينما في ذات المكان جسدٌ تجمّدتْ فيه العروق.
ملامحُ وجهه لم تكنْ بعيدةً عن مخيلتي،كانت تسكنني بكلِّ تفاصيلها ،وتلك الشامة على خدّه الأيسر هي حكاياتي المنسية في صورةٍ دفنتْها الذاكرة..كيف خرج من دفاتري وانتقى صدفةً تشرينيةً للقائِنا،لستُ أدري!
أعدتُ مظلّتي من الماضي، وأطرقتُ ناظري في دوائرَ منبثقة ولدّتها حباتُ المطر دون التفات،ولم أعلم حينها هي التي ولدتْ أم أنا!
ومن تحتِ آفاق المظلّة وقعتْ عيناي على ذات المعطف ،وأحاطني من جديد ذات الإعصار،ولعلّ أطرافها لم تحتملْ هبوب الأعاصير فأبعدتهُا عني، وتركتُ عيني تجاريان مالم تستطع مظلّتي أن تجاريَه!
كان واقفاً أمامي بكلّ مافيه ولكن هذه المرّة كان قريباً جداً ,لم يكن فقط عابر سبيل كما ظننت ، وبصمته الصاخب جعل عينيّ تبوحان بجميع مايريد أن يسمعْ ،للحظة ٍواحدة عدت ُبها من دنياه وأردفتُ نظرةً خاطفة لأضواء الشارع المستحمّة بعيدان المطر!
ثم عدتُ إلى عوالم عينيه ثانيةً ،و صلّيتُ في داخلي لأتناسى ملامحه المغزولة بحبري الأسود،وقبل أن أتمّ تمائمي الأخيرة ضربني إعصار نبراته المألوف : "أين التقينا؟!"
وكيف لي أن أخبرَه عن مكان لقائنا؛ إن كان المكان هو الصفحات البيضاء ،وكيف لي أن أبوح له بسحر نظراته وهي من سحر قلمي ,وكيف أكشف عن صورته المختبئة في عالمي الواسع دوناً عن جميع الصور!
رفعتُ حاجبي ونفيتُ رغماً عنّي ماادّعاه،لكنّه لم يبرحْ مكانه ،وبقيَ كالضائع يبحث عن شيءَ ما ربما أضاعه في وجهي ،تماماً كالأشياء التي كنتُ أبحث عنها في سمرته الليلية!
كان مختلفاً عن كلّ شيء،كالمكان الذي جمعنا ،والشارع الذي أحاط بنا،مختلفاً كالمطر الذي آثار في داخلي رغباتٍ جنونية ،راحت تضرب طفولتي النائمة،لتصحو من سباتها الطويل وترقص تحت قطراتٍ تحررتْ من رحم ديمةٍ مسافرة، لكنّها لم تستطع إلا أن تبقى غافية أمام تلك الخصلات التي عانقها شيبُ الصبا مع أخرياتٍ كحلهنََّ الليل.
استأذنتْه ابتسامتي بعد أن أيقظتْها حبةُ مطر متطفلة كلَّلتْ جبيني الحائر!
ومضيتُ برفقة مظلّتي ،وشيءٌ منّي في الخلف لم يزلْ متلعثماً يدْوي في لحظةٍ جنونيّة جديدة سرقتني فيها قدماي،ورحتُ أجري لأصلَ إليه وألتقي به مجدداً فوق صفحاتي ,وأبوح َله بروعة حلولِ الربيع وسطَ ازدحامِ الشوارع بالمارّة ،و أسياجٍ من المطر استطاع جمعها بحروف مقلتيه.



صبا حبوش

هناك تعليق واحد: